الهجرة إلى الله

بقلم ـ هناء الوزير

الحمد لله رب العالمين ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له الملك الحق العدل المبين شهادة نفتخر بها في الدنيا ،ونرتقي بها في الآخرى

تعني الهجرة في معناها :الانتقال من مكان إلى آخر لغرض ما .
هاجر رسول الله صلوات الله عليه وآله من مكة إلى المدينة بعد أن استفد كل وسعه وجهده وطاقته مع أهل قريش ،بحثا عن مكان أمن وبيئة طيبة يقيم فيها دين الله ،ويؤسس لدولة الإسلام الذي سينتشر في كل بقاع الأرض .

ومن قبله هاجر إبراهيم عليه السلام لما ضاقت به الأرض (ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[سورة العنكبوت 26]
فالهجرة ديدن كل الدعاة إلى الله بأن يهاجروا إلى الله ،بعد هجران المعاصي والشهوات ،وهذا لسان حال اﻷنبياء من نوح إلى رسول الله محمد صلوات الله عليهم أجمعين
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)
[سورة الذاريات 50 – 51]

لم تكن هجرتهم فرارا أو ضعفا أو جبنا وإنما خروج من أجل البحث عن مكان وبيئة تحمل لواء الإسلام ، واثقين بوعد الله بالنصر والتمكين في الدنيا ،والفلاح في الآخرة
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) سورة النحل 41 – 42]
فالهجرة لازمن لها ولا حد ،فقد خرج رسول الله وهو في الثالثة والخمسين بعد أن بذل وسعه في دعوة قريش على مدى 13عاما ،وانتهت بهم مصالحهم وطغيانهم إلى سقوطهم في منزلق الكبر والطغيان ،فحرموا أنفسهم نعمة الهداية والاستبصار .
وكانوا أقدر على نيل هذا الشرف العظيم الذي كان سيرفعهم مقاما عاليا عند الله وعند خلقه ،ولكن هيهات لمن ارتضى الدنيا بديلا عن الأخرى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ * وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) سورة الزخرف 44 – 45]
حتى جاء الإذن من الله بتركهم (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
[سورة الذاريات 52 – 56] كان الغاية الأسمى أن ينصاع الناس جميعا لعبودية الله الواحد الأحد ،
ليحظى بشرف احتضان الدعوة قبيلتي الأوس والخزرج من سكنوا المدينة ،فكانوا هم الأنصار ،أنصار الله وأنصار رسوله وأنصار دينه
بعد أن وجد فيهم رسول الله خير أنصار لدين الله ،فنالوا بذلك واستحقوا شرف النصرة ،ولقب الأنصار
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)سورة الحشر 9]

هاجر رسول الله متألما على أحب البقاع إلى الله التفت إليها وعيناه تدمع على بلد ولد فيه وتربى وترعرع متنسما بيت الله الحرام و مشاعره المقدسة فيها (زمزم ومنى )قائلا :أما والله إنى أعلم أنك أحب أرض الله إليه ، وأكرمها عليه ،ولولا أن أهلك أخرجوني منها ماخرجت ..ودع رسول الله مكة على أمل أن يعود إليها فاتحا منتصرا ثقة وإيمانا بالله لاطغيانا ولا تجبرا ..
فتعلقه بالمكان هو تعلق بالغاية التي أرادها الله ،فوطن الإنسان حقيقة هو المكان الذي يقيم فيه شريعة الله ويحقق فيه الاستخلاف ،وليس التعلق بالجدران والتراب والمكانة
وقد استحق بخروجه لله وفي سبيله وساما عظيما من الله فقال تعالى :(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)سورة النحل 41 – 42]

فالهجرة إلى الله غاية كل مؤمن مخلص مع الله،بغية أن تكون كلمة الله هي العليا
فما خرجوا لمصالح دنيوية ،فمازالت كلمات رسول الله صادحة وهو يرفض كل مغريات قريش قائلا :(والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الأمر ماتركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه )

هاجر لتكون كلمة الله هي العليا ،هاجر باحثا عمن يتلقى منه، ويحمل معه لواء الدين
(وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)
[سورة النساء 100]

هاجر وكل همه النجاة بدينه من جبروت قريش وطغيانها وإعراضها، كما دفع بأصحابه من قبل للهجرة إلى الحبشة حفاظا على دينهم .
هاجر ككل مهاجر يرجو الله ،كما هاجر من قبله أصحاب الكهف حرصا وتمسكا بدينهم فكانوا معجزة وآية إلى يوم القيامة (
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) سورة الكهف 13 – 16]
فروا إلى الله بدينهم ،فكان الله معهم ،كان هناك في الكهف ينتظرهم ،ليحفهم برعايته وحفظه .

فهل علينا ولنا هجرة مثلهم ؟
قد يتوقف البعض عند معنى ضيق للهجرة ،فيرى الهجرة خروج لغرض أو منفعة دنيوية ،أوفرارا من ضرر ،لتحقيق طموح أو نجاحات ،والحصول على تعليم أفضل أوعمل تحفه المغريات
غافلين عن المعاني العميقة للهجرة ،وأعلى مراتبها الهجرة لله من مكان إلى مكان
هجرة تترك فيها المعاصي والموبقات لترتقي عندالله (والرجز فاهجر )
قد نهجر اﻷقربين لكي لاننزلق معهم في المعاصي (واصبر على مايقولون واهجرهم هجرا جميلا )
مستحضرين قول رسول الله صلوات الله عليه وآله :(لا يحل لعين ترى الله يعصى أن تطرف حتى تغير أو نتقل )
علينا أن نرتقي بهجران المعاصي والمنكر والذنوب ،
ونهجر الدعة والراحة والسكينة من أجل الله ونشر هدى الله ،فنهاجر بقلوبنا وأعمالنا نحو الله.
(وما أهدى المسلم لأخيه المسلم خير من كلمة حق سمعها فوعاها فانطوى عليها فعلمه إياها يرده بها عن ردى او يرشده إلى هدى ،فإنها تعدل إحياء نفس ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا )
فهل نهاجر إلى الله بهجران المعاصي ،وهجرة الراحة
لنفوز برحمة الله وأجر في الآخرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
[سورة البقرة 218]

فلنهجر كل ظالم وطاغية ونجعل عبوديتنا لله غايتنا دون التفات لغمز الغامزين واستهزاء الغاوين ،وهجران الأقربين ،محققين الغاية الأسمى ف (كفى بي فخرا أن أكون لك عبدا،وتكون لي ربا )
اللهم وفقنا لهجران المعاصي
واجعلنا من المهاجرين الذين تبؤوا الدار والإيمان
واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم
(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

#اتحاد_كاتبات_اليمن

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق