قسيسة من خلف الضباب 19

بقلم ـ عفاف البعداني

-القسيسة: مكثت في مكانها داخل لحاء الشجرة تدعو الله من صميم قلبها بأن تعود زهرة للحياة من جديد، خرجت ونامت على قبر قرعدستان وكأن الأيام الصِعاب عاودتها من جديد، هبت رياح لطيفة من القبر نحو القسيسة، ابتسمت ولكن هذه المرة قد تقاسمها الشرود وتاهت في فلك الخيبة، وكالعادة هبوب الرياح لايأتي إلا ببشرى بقيت منتظرة ترى وتشعر بأن هناك صوت قادم خلف تلك الرياح يقول:…

“زهرة بحاجتك أذهبِ إليها ،واعِطها هذه العشبة،والسلام على روحها إن تعافت أو رحلت”

-القسيسة… سيدي أرجوك أعلمني هل ستموت زهرة؟وهل ستعود وأراها؟ سيدي قرعدستان رحماك بقلبي ورد عليّ بالجواب؟ لقد فقدت أشرعت البارحة وعدت للماضي التعيس بدونك وبدون زهرة؟؟

-قرعدستان: ابنتيِ… . الموت في كلا العالمين قدر من الله وكما قال سيدي شمس الدين التبريزي :((لا أستطيع أن أخبرك مالقدر: فكل مايمكنني أن أحدثك عن القدر في قاعدة أخرى من قواعد العشق اﻷربعين : “لايعني القدر أن حياتك محددة بقدر محتوم ،لذلك فإن ترك كل شيء للقدر وعدم المشاركة وعدم العزف في موسيقى الكون دليل على جهل مطلق”))

اختفت تلك الرياح العجيبة التي لا تأتي إلا عند الشدائد
وأخذت القسيسة عشبة من داخل الشجرة، ورحلت من عالمها نحو زهرة، كان الوقت عصرا، وزهرة في غيبوبة مصيرية ،والقسيسة لم تستطع أن تدخل للغرفة، فهناك ممرضات ودكاترة كُثر.

-جهاد يذهب ليطمئن على أبوحرب:

-كيف حالك أخي أبو حرب.

– الحمدلله تحسنت وكيف صارت أختك زهرة.

– في غيبوبة منذ البارحة،بين الموت والحياة.

– هون عليك الله متكفل بخلقه.
-ونعم بالله.
– أمك هل تعلم بالخبر.

-لا لم أحدثها بعد لا أريد أن أعطها أملا بعودة زهرة وهي في سرير الموت.

-لا… هذا ليس من الصواب، اذهب إلى أمك وأخبرها بكل شيء ولاعليك زهرة ستكون بخير،وسنهتم بها.

-حسنا… سوف أذهب.
-انتظر ياجهاد على سيرة الأسرى هل هناك أخبار جديدة.

– نعم أبو العباس قد أدى ماعليه نحوهم، ولازال بانتظار إتصال من قادتهم ولكن لم يتصل به أحد يبدو أنه لا أحد يريد أن يأخذهم .

– هذا هو طابع خاص بهم أن يتركوا أسراهم دون أن يهتموا لمصيرهم.

-حسنا استودعتك الله يا أبو حرب.

زهرة في سباتها غارقة، وكأنها في بحر الحياة عالقة، فلاهي نجت ولاهي غرقت للأبد ، بل في سفينة مهددة بين الموت والحياة، أصبحت ترى أرواحا كثيرة كأبيها وكثيرا من مواكب الشهداء، وكأنهم يعدون لها مراسم الاستقبال على مرافئ السماء السابعة، وفي الجهة الاخرى تقف القسيسة مكابرة الوضع ومتحدية اللحظة، لتعيدها للحياة من جديد.

-القسيسة: في هدأة الليل أقبلت على الغرفة التي تنام فيها زهرة ألقت نظرة على ذلك الجسد المستسلم للحياة أيما استسلام ، أبعدت الضمادة والعطب وأخلت الجرح من جميع الاسعافات ووضعت العشبة، أرجعت العطب وأقفلت الجرح، وظلت بجانبها تمسك بيديها وتحكي لها حديث الروح للروح الذي لا يسمع ترانيمه إلا ملاكا سماوياً يحفه حب اﻷصدقاء، ولم تكد تمر السويعات إلا وزهرة تسقط من عينيها دموع الحياة، وكأنها نجت من تلك السفينة وودعت أباها عند شاطىء الأرواح ولوحت بيدها موحية لأباها بأن اللقاء لم يحن بعد.

-القسيسة: تبتسم ابتسامة عريضة، زهرة هل عدتِ لي ياعزيزة… أعرف أنك لن تتركيني أبدا، ترخي جبينها الوضاء ببطء وكأنها تريد أن تبادلها الابتسامة اختفت القسيسة كونها سمعت بعض أقدام متجهة نحو الغرفة.

-الطبيب.. يدخل ويندهش مما يرأى !!! استيقظتِ زهرة للحياة… هل فقتِ من جديد لا أصدق ،الحمدلله، الآن سوف أخبر جهاد .

عادت أنفاس زهرة ولكن في داخلها لازالت أشياءميتة، فمن سينقذها،وينفض غبار الذكريات الموجعة التي شهدتها في الأيام الأخيرة، مشهد الحرب، صوت الرصاص ،صورة أبيها التي لم تفارقها منذ لقاءها معه بالكهف ، أشياء بداخلها كانت كفيلة بأن تعيدها إلى سباتها من جديد ولكن مشيئة الله كانت فوق كل شيء.

زهرة تستعيد حيويتها في كل ساعة قادمة، جهاد وأمه في الطريق إليها، القسيسة تراقب من بعيد وتروح وتغدوا بين الإياب والذهاب، تصل سديم وابنها معلنة ميلاد جديد لنفسها برجوع ابنيها إليها تتحول غرفة زهرة إلى صالة استقبال وزيارات الأصدقاءوالأقارب فزهرة اسم على مسمى إنسانة عبقة الشذى ورونقية العطاء لجميع سكان أهالي الضباب.

ولكن دائما الحياة لاتكتمل ففي الغرفة المجاورة أبو حرب تستاء حالته ويشب الألم فيه يوم بعد يوم بعكس زهرة التي تتعافى للأحسن.

أبو حرب في عز تعبه يتواصل مع المجاهدين ويطمئن على الأسرى ويهتم بالتوزيع الغذائي، ويعطي الأوامر بالبدء في الزراعة ، وتعويض أُسر الشهداء التي تهدمت منازلهم إثر الحرب والسيول بقدر الاستطاعة.

وظل أبو حرب شريد الفكر… لايعلم لما زهرة لازلت بنظره هي البطلة الأولى في تلك المعركة، هومتعجب أي روح تمتلكها؛ كي تضحي بنفسها وتنقل له تلك الأخبار، وهل يعقل أنها من تستحق أن يهبها تلك الأمانة المكنونة في نفسه منذ سنين، هل يجب أن يعطها تلك الأشياء التي لم يمنحها لأحد، ابتسم متاثراً بشخصيةزهرة، وأحس بألم فضيع يزاوره بين الفينة والاخرى.

-جهاد يأتيه…. وهو سعيد بعودة أخته ولكنه حزين للحالة التي وصل إليها القائد.

-بصوت صغير،جهاد هل لي أن أطلب منك شيء! ؟؟

-روحي فداك سيدي.

– أريد أن أتحدث مع زهرة أحضرها إلى هنا .

-جهاد… متعجبا نعم لك ماشئت.

#اتحاد_ كاتبات_ اليمن.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق